صناعة الأدب، فن كسائر الفنون، تحتاج إلى شروط، وترتكز على مجموعة من الأعمدة الأساسية التي دونها لا يمكن أن يكون صانع الأدب نابغاً أو نبيهاً أو حتى يمكن له الوصول إلى قلوب الناس وعقولهم.
يحتاج الفرد الذي ينوي الدخول إلى إحدى كليات أو معاهد الفنون إلى امتحان يدعى - اختبار الموهبة- لو فرضنا الموسيقى، لكانَ الاختبار يستدعي إعادة بعض النقرات التي يقوم المختص بطرقها على الطاولة ويطلب من المتقدم بإعادة الطرقات- الإيقاع- بنفس الوتيرة!
لكنَ المختص لا يطلب من المتقدم بقراءة النوتة الموسيقية! لأنَ ذلك سيدرسه في الكلية أو المعهد لاحقاً. وفيما إذا فشلَ المتقدم بأدائه، تراه لن يكونَ مميزاً أبداً حتى وإن ظلَ يدرس الموسيقى العمر كله! والسبب واضح من المثال، لعدم تمتعهِ بالموهبة التي تؤهله للنبوغ أو الامتياز.
إذن فصناعة الأدب، وبالتحديد الكتابة فنٌ راقي، تحتاج إلى الموهبة أولاً، وبدونها لا يصل المتقدم إلى قلوب الناس، ناهيكَ عن عقولهم. حتى وإن قتلَ نفسه بالدراسة والتحصيل في أفضل جامعات العالم تحضراً وسمعة، والمتخصصة في الآداب واللغات. فإن كانَ لا يتمتع بالموهبة التي تصقلها المطالعة والقراءة المستمرة والتمرين والمحاولة والاستمرار. تراه لن يجدي نفعاً لا لنفسه ولا للناس المساكين الذين يرهقهم بخطبه الرنانة التي تصدع ولا تفهم! وذلكَ لتركيزه على اللغة التي أجادَ بدراستها ولم يُسلّم بحتمية وجود الموهبة التي هي الرحم الذي يولد فيه الأدب الراقي الرفيع، والذي يجعل من خلاله الناس وهي تشير إليه بالعرفان والجميل إن أجادَ ونفع.
أمثلتنا على ما نقول كثيرة، لكننا نوجزها بما يلي:
- الكاتب الكولومبي “ماركيز“ الذي حصلَ على جائزة نوبل للآداب، كأول كاتب كولومبي يحصل على مثل هذه الجائزة وهو الذي لم تنشر له أول رواية كانَ قد أرسلها إلى إحدى دور النشر في الأرجنتين، ليعيد كتابتها مجدداً ويدفع بها إلى دار أخرى في إسبانيا لتنشر هناك وبنجاح ساحق. لكنه لم ييأس أو يتراجع، بل ثابرَ وسعى، حتى وصلَ إلى ما وصلَ إليه... وهو الذي لم يدخل في حياته أروقة كليات الآداب أو اللغات! بل تركَ دراسته الجامعية الحقوقية ليشتغلَ بالصحافة وليمارس الكتابة ليلاً وهو الذي كانَ يفترش الأرضَ سريراً والجرائد غطاءاً.
- الكاتب العربي المعروف“ توفيق الحكيم “ رائد المسرح العربي دونَ منازع. أحرقَ مقالاته وقصصه ومسودات مسرحياته التي كتبها أثناء رحلة دراسته في فرنسا، لعدم اقتناع النقاد بنتاجه في ذلك الوقت، لكنه واصلَ السعي بكل حزم وإصرار، فشلَ في حصوله على شهادة الدكتوراه في القانون، رجعَ إلى مصر وهو يحلم بأن يكون كاتباً عالمياً... تركَ عملهِ في القضاء ليتفرغ للأدب الذي عشقه والذي ساعده في مسعاه هي موهبته وليست دراسته الأكاديمية... جلسَ في المقاهي ليستمع للناس( همومهم ونكاتهم) ولم يجعل الوقت يمضي دونَ قراءة ومطالعة ما كتبه كبار الأدباء ممن سبقوه، ليخرج للناس بمسرحية أقامة الدنيا ولم تقعدها( الكهف) المأخوذة من إحدى آيات القرآن!
عجباً، لماذا لم يتوصل غيره إلى هذه الفكرة التي تجعل الدارس للآداب واللغات أن يصهر ويحول ما جاءت به الكتب المقدسة إلى أدب راقي؟! إنَ دارس الآداب واللغات لا ينقصه العلم؟ ولا تنقصه الدراية الأكاديمية؟ ولكن تنقصه الموهبة، تنقصه هذه الخامة التي تغذيه من دونَ أن يعلم بأنهُ يجلس فوق مرجل من الإلهام والإبداع والأفكار الجميلة التي ما أن تنطفئ حتى تتوقد مجدداً، وما العلم إلا عند الله!
في حين لو كانَ كل دارس للآداب واللغات يصبح أديباً... لغاصت الدنيا بصياحهم وغرقت الناس بعياطهم والعياذُ بالله.
- المثال الآخر نأخذه عن الدكتور طه حسين، التي قصته معروفة للجميع كأسماء الله الحسنى! لم يكمل دراسته في الأزهر، ولم يحصل حتى على شهادة البكلوريا الوزارية. لكن النبوغ الذي يمتلكه والموهبة الراقية التي تعيش في داخله وتلهمه، وقراءاته التي لا تنقطع والسيل الجارف من تجارب الناس وملكوت الحياة التي كانَ يراقبها بعين صياد محترف! هي التي كانت وراء شهرته.
- الدكتور الروسي “تيشخوف“ الذي كانَ طبيباً بشرياً... لم يزاول مهنته، بل هجرها وتفرغَ للأدب الذي يحبه، وعندما سؤل عن خزين مفرداته وهو الذي لم يزور قاعات الدرس في كليات اللغات أو الآداب، قالَ مبتسماً بصدق: من الناس! عندما أجلسُ معهم في عربات القطار بالدرجة الثانية، أسمع كل ما هو رائع وجميل، من نكته، وإطراء فلاحي، وخبر مضحك، ومقلب جميل، بريء.
يقصد من الحياة لا من الجامعات المتخصصة التي تصدح بالقديم والتقييد والأصول والمحاذير دونَ الاعتناء أو الأخذ بنظر الاعتبار قابلية الناس الاستيعابية أو حتى محاولة النزول إلى مستوياتهم البسيطة التي تجعلهم يفرحون ويستفيدون كباقي عباد الله... وإن لم يأخذوا حظهم في التعليم بما يجعلهم من طبقة المتعلمين والدارسين والمتخصصين الذين يتبخترون كالديوك في مشيتهم وصياحهم! أعوذُ بالله من الشيطان الذي لا يرحم ولا يجعل العباد ترحم.
لو أحببنا الإطالة لذكرنا في هذا الصدد كُتّاب كبار أمثال العقاد وغيره ممن لم يحصلوا في حياتهم التعليمية إلا على النزر البسيط... لكن بمواهبهم الخلاقة، وبمطالعاتهم المستمرة والمتنوعة وبنزولهم إلى الحياة بصخبها وضجيجها، بفرحها وحزنها وبالاستفادة من الذينَ سبقوهم في هذا المضمار ... وبأسلوب الكتابة المبسط الممتع المشوق... يستطيع الفرد أن يصنعَ أدبناً يشار له بالبنان ليدخل قلوب الناس وهم ينظرون له بإجلال وإكبار وحب ووقار.